فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عادل:

{الظُّلَلُ} جمع ظُلَّةٍ، وهو ما أظَلَّكَ الله به {والغَمَامُ} هو السَّحاب الأبيض الرَّقيق، سمِّي غمامًا؛ لأنه يغمُّ، أي: يستر.
وقال مجاهدٌ: هو غير السحاب، ولم يكن إلاَّ لبني إسرائيل في تيههم.
وقال مقاتلٌ: كهيئة الضَّبابة أبيض.
قال الحسن: في سترةٍ من الغمام. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {وَقُضِىَ الأمر} معناه: ويقضي الأمر والتقدير: إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر فوضع الماضي موضع المستقبل وهذا كثير في القرآن، وخصوصًا في أمور الآخرة فإن الإخبار عنها يقع كثيرًا بالماضي، قال الله سبحانه وتعالى: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى} [المائدة: 116] والسبب في اختيار هذا المجاز أمران أحدهما: التنبيه على قرب أمر الآخرة فكأن الساعة قد أتت ووقع ما يريد الله إيقاعه والثاني: المبالغة في تأكيد أنه لابد من وقوعه لتجزى كل نفس بما تسعى، فصار بحصول القطع والجزم بوقوعه كأنه قد وقع وحصل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وقُضي الأمر} إما عطف على جملة: {هل ينظرون} إن كانت خبرًا عن المخبر عنهم والفعل الماضي هنا مراد منه المستقبل، ولكنه أتى فيه بالماضي تنبيهًا على تحقيق وقوعه أو قرب وقوعه، والمعنى ما ينتظرون إلاّ أن يأتيهم الله وسوف يقضى الأمر، وإما عطف على جملة: {ينظرون} إن كانت جملة: {هل ينظرون} وعيدًا أو وعدًا والفعل كذلك للاستقبال، والمعنى ما يترقبون إلاّ مجيء أمر الله وقضاءَ الأمر.
وإما جملة حالية والماضي على أصله وحذفت قد، سواء كانت جملة: {هل ينظرون} خبرًا أو وعدًا ووعيدًا أي وحينئذٍ قد قضي الأمر، وإما تنبيه على أنهم إذا كانوا ينتظرون لتصديق محمد أن يأتيهم الله والملائكة فإن ذلك إن وقع يكون قد قضي الأمر أي حق عليهم الهلاك كقوله: {وقالوا لولا أنزل عليه ملَك ولو أنزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون} [الأنعام: 8].
والقضاء: الفراغ والإتمام.
والتعريف في الأمر إما للجنس مرادًا منه الاستغراق أي قُضِيت الأمور كلها، وإما للعهد أي أمر هؤلاء أي عقابهم أو الأمر المعهود للناس كلهم وهو الجزاء. اهـ.
قال ابن عاشور:
وقوله: {وإلى الله ترجع الأمور} تذييل جامع لمعنى: {وقضى الأمر} والرجوع في الأصل: المآب إلى الموضع الذي خرج منه الراجع، ويستعمل مجازًا في نهاية الشيء وغايته وظهور أثره، فمنه {ألا إلى الله تصير الأمور} [الشورى: 53].
ويجيء فعل رجع متعديًا، تقول رجعت زيدًا إلى بلده ومصدره الرَّجْع، ويستعمل رجع قاصرًا تقول: رجع زيد إلى بلده ومصدره الرجُوع.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عَمرو وعاصم وأبو جعفر ويعقوب {تُرجع} بضم التاء وفتح الجيم على أنه مضارع أرجعه أو مضارع رجَعَه مبنيًا للمفعول أي يَرْجع الأمورَ راجعُها إلى الله، وحذفُ الفاعل على هذا العدم تعين فاعل عُرفي لهذا الرجع، أو حُذف لدفع ما يبدو من التنافي بين كون اسم الجلالة فاعلًا للرجوع ومفعولًا له بحرف إلى، وقرأه باقي العشرة بالبناء للفاعل من رجع الذي مصدره الرجوع فالأمورُ فاعل تَرْجع. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}.
التفسير: لما آل أمر بيان الحج إلى تعديد فرق الناس بحسب أغراضهم في الدعاء، ناسب أن يعطف على ذلك تقسيم آخر يعرف منه مطامح أنظار الناس على الإطلاق ليعرف أرباب النفاق. من أصحاب الوفاق. عن السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وهو حليف بني زهرة.
أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأظهر له الإسلام وزعم أنه يحبه وقال: والله يعلم أني لصادق. فلما خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم مر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع وعقر الحمر. وقيل: إنه أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم: إن محمدًا ابن أختكم فإن يك كاذبًا كفاكموه سائر الناس، وإن يك صادقًا كنتم أسعد الناس به. فقالوا: نعم الرأي ما رأيت. ثم خنس بثلثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمى بهذا السبب أخنس- وكان اسمه أبي بن شريق- فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه. وعن ابن عباس والضحاك: أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفرًا من علماء أصحابك فبعث إليهم جماعة، فلما كانوا ببعض الطريق ركب من الكفار سبعون راكبًا فأحاطوا بهم فقتلوهم وصلبوهم ففيهم نزلت. وقوله بعد ذلك {ومن الناس من يشري} إشارة إلى هؤلاء الشهداء. واختيار المحققين من المفسرين أنه لا يمتنع أن تكون الآية نازلة في الرجل ثم تكون عامة في أمثاله. فهذه الآية عامة في المنافقين، فإن ألسنتهم تحلو لي وقلوبهم أمر من الصبر. والضمير في {يعجبك قوله} يعود إلى من ويحتمل أن يكون جمعًا ولكنه أفرد نظرًا إلى اللفظ. ومعنى يعجبك يروقك ويعظم في قلبك و{في الحياة الدنيا} إما أن يتعلق بقوله أي يعجبك ما يقوله في باب الدنيا طلبًا للمصالح العاجلة فقط كالأمان من القتل والأخذ من المغانم، وإما أن يتعلق بيعجبك لأن قوله وحلو كلامه إنما يعجب السامع في الدنيا ولا يعجبه في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الهيبة والحيرة، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام.
والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل سامع. {ويشهد الله على ما في قلبه} يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف، وأن يكون بقوله شهد الله على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام. {وهو ألد الخصام} الألد الشديد الخصومة، واللديدان جانبا الوادي. كأن كلًا من المتخاصمين في جانب. ومنه اللدود وهو ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم. وإضافة الألد بمعنى في كقولهم ثبت الغدر وقتيل الصف أو جعل الخصام ألد على المبالغة نحو جد جده. والخصام جمع خصم كصعاب في صعب. والمعنى: هو أشد الخصوم خصومة. والحاصل إنه جدل بالباطل شديد الفسوق في معصية الله عالم اللسان جاهل العمل، وإذا تولى عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق سعى في الأرض ليفسد فيها كما فعل بأولئك المسلمين من إحراق الزروع وعقر المواشي. وأصل السعي المشي بسرعة، وقد يستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس. وقيل: لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة، فبيتهم ليلًا وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم، وعلى هذا فيقع قوله: {ويهلك الحرث والنسل} تفصيلًا لما أجمله قوله: {ليفسد} وقيل: إفساده هو إلقاء الشبه في عقائد المسلمين، وعلى هذا فيكون إهلاك الحرث والنسل بمعنى آخر. وهذا تفسير مناسب لأن كمال الإنسان بالعلم والعمل ونقصه بضدهما، فيكون الإفساد إشارة إلى نقص قوّته النظرية والإهلاك عبارة عن فعل المنكرات وفيه نقصان قوّته العملية. وقيل: {وإذا توّلى} أي إذا كان واليًا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل. وقيل: يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل. فالحرث الزرع، والنسل الولد. ونسلت الناقة بولد كثير، والتركيب يدل على الخروج. وقيل: إهلاك الحرث قتل النسوان {نساؤكم حرث لكم} [البقرة: 223] وإهلاك النسل إفناء الصبيان {والله لا يحب الفساد}.
قالت المعتزلة: معناه لا يريد الفساد. وفيه دليل على أنه يريد القبائح وإذا لم يردها لم يخلقها لأن الخلق لا يمكن إلا بالإرادة. ومنع من أن المحبة نفس الإرادة، بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكره بالتعظيم. ثم الدليل الدال على أن لا مرجح لأحد جانبي كل ممكن على الآخر إلا الله وإلا انسد باب إثبات الصانع يدل على أن الكل بإرادته ومشيئته، وقد مر تحقيق ذلك فيما سلف.
واعلم أنه سبحانه حكى عن المنافق جملة من الأفعال الذميمة. أولها حسن كلامه في طلب الدنيا، وثانيها استشهاده بالله كذبًا وبهتانًا، وثالثها لحاجة في إبطال الحق وإثبات الباطل، ورابعها سعيه في الأرض للإفساد، وخامسها سعيه في إهلاك الحرث والنسل. فوقع قوله: {والله لا يحب الفساد} جمله معترضة. ثم ذكر خصلة سادسة أشنع من الكل دالة على جهله المركب وخروجه عن أن يرجى منه خير وذلك قوله: {وإذا قيل له اتق الله} في ارتكاب شيء من هذه المنهيات. والقائل إما الرسول صلى الله عليه وسلم قولًا خاصًا أو عامًا لجميع المكلفين فيدخل المنافق فيه، وإما كل واعظ وناصح {أخذته العزة بالإثم} من قولهم أخذت فلانًا بأن يفعل كذا أي ألزمته ذلك وحملته عليه أي أخذته الغلبة والاستيلاء والأنفة وحمية الجاهلية أن يعمل الإثم، وذلك الإثم هو ترك الالتفات إلى هذا الوعظ وعدم الإصغاء إليه، أو من قوله أخذته الحمى أي لزمته، وأخذه الكبر أي اعتراه ذلك والمعنى لزمته العزة الحاصلة بسبب الإثم الذي في قلبه، وذلك الإثم هو الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل {فحسبه جهنم} كافية هي جزاء له يستوي فيه الواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث لأنه مصدر. ورفعه على الخبرية أو على الابتداء إذا كان ما بعده معرفة، أو على الابتداء فقط إن كان نكرة مثل حسبك درهم. وعلى هذا تكون الإضافة معنوية ألبتة، وعلى تقدير كونه خبر الوقوع المعرفة بعده تكون الإضافة لفظية أي فحسب وكافٍ له. قال يونس وأكثر النحويين: جهنم اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية وفيها العلمية والتأنيث. وقال آخرون: إنه اسم عربي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها. حكي عن رؤبة أنه قال: ركية جهنام بكسر الجيم والهاء أي بعيدة القعر. وقيل: اشتقاقها من الجهومة وهي الغلظ. ومنه رجل جهم الوجه أي غليظه. سميت بذلك لغلظ أمرها في العذاب والعقاب. {ولبئس المهاد} أي ما يمهد لأجله فإن المعذب في النار يلقى على النار كما يوضع الشخص على الفراش. ويحتمل أن يكون مصدرًا بمعنى التمهيد والتوطئة.
قوله تعالى: {ومن الناس من يشري} الآية. قال سعيد بن المسيب: أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال: والله لا تصلون إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي. وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي ففعلوا. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ربح البيع أبا يحيى وتلا الآية». وقيل: أخذ المشركون صهيبًا فعذبوه فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير لا يضركم، أمنكم كنت أم من غيركم. فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك. وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال، فقال له أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى. قال صهيب: وبيعك. أفلا تخبرني ما ذاك؟ فقال: نزلت فيك كذا قرأ الآية. عن الحسن: نزلت في أن المسلم أتى الكافر فقاتل حتى قتل. وقيل: نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. سمع عمر بن الخطاب إنسانًا يقرأ هذه الآية فقال عمر: إنا لله قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل. وقيل: نزلت في علي رضي الله عنه بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خروجه إلى الغار. ويروى أنه لما نام على فراشة قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل ينادي بخ بخ. من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية. ثم إن الآية تدل على أن هاهنا مبايعة، فأكثر المفسرين على أن العامل هو البائع. ومعنى يشري يبيع {وشروه بثمن بخس} [يوسف: 20] والله هو المشتري {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} [التوبة: 111] وعمل المكلف وهو بذل نفسه في طاعة الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد هو الثمن والجنة هي المثمن. وقيل: يحتمل أن يراد بالشراء هاهنا الاشتراء وذلك أن من أقدم على الكفر والمعاصي. فكأن نفسه خرجت عن ملكه وصارت حقًا للنار، وإذا أقدم على الطاعة صار كأنه اشترى نفسه من النار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دراهم معدودة ويشتري بها نفسه، والمؤمن يبذل أنفاسًا معدودة ويشتري بها نفسه، لكن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم. فكذا المكلف لا ينجو عن ربقة العبودية ما دام بقي له نفس واحد في الدنيا، وهذا كقول عيسى عليه السلام {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا} [مريم: 31].
وقوله عز من قائل لنبيه {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99] و{ابتغاء مرضات الله} أي طلب رضوانه نصب على العلة الغائية. وفيه دليل على أن كل مشقة يتحملها الإنسان يجب أن تكون على وفق الشرع ومطلوبًا بها جانب الحق وإلا كان عمله ضلالًا وكده وبالًا. {والله رؤف بالعباد} فمن رأفته جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل، وجوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106] ومن رأفته أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ومن رأفته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط عقابه وأعطاه ثوابه، ومن رأفته أن النفس له والمال له ثم إنه يشتري ملكه بملكه فضلًا منه وامتنانًا ورحمة وإحسانًا.
قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} أصل السلم بالكسر، والفتح الاستسلام والطاعة. ويطلق أيضًا على الصلح وترك الحرب والمنازعة. وهو أيضًا راجع إلى هذا وإنه يذكر ويؤنث. واختلف في المخاطبين فقيل: أمر للمسلمين بما يضاد حال المنافقين أي يا أيها الذين آمنوا بالألسنة والقلوب دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من أيامكم ولا تخرجوا منه ولا من شيء من شرائعه. {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} لا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أهل الغواية، والكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجًا منها لا يمتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالًا بعد حال. ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال، فلا يبعد أن يأمرهم الله بالدخول في الإسلام فيما يستأنف من الزمان. أو أمرهم بأن يكونوا مجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه. ولا تتبعوا آثار الشيطان بالإقبال على الدنيا والجبن والخور في أمر الدين مثل {ولا تنازعوا فتفشلوا} [الأنفال: 46] أو يكون المراد بالدخول في السلم ترك الذنوب والمعاصي، فإن من مذهبنا أن الإيمان باقٍ مع الذنب والعصيان، أو يكون المراد الرضا بالقضاء والتلقي لجميع المكاره بالبشر والطلاقة كما ورد في الخبر «الرضا بالقضاء باب الله الأعظم» أو يكون المراد ترك الانتقام وسلوك طريق العفو والإغماض {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا} [الفرقان: 63] وقوله: {كافة} يصلح أن يكون حالًا من المأمورين أي ادخلوا بأجمعكم في السلم ولا تتفرقوا ولا تختلفوا وأن يكون حالًا من السلم على أنها مؤنث كالحرب أي ادخلوا في شرائع الإسلام كلها وأصل الكف المنع فسمي الجميع كافة لأن الاجتماع بمنع التفرق والشذوذ. ورجل مكفوف أي كف بصره من أن ينظر. وكفة القميص لأنها تمنع الثوب من الانتشار. والكف طرف اليد لأنه يكف بها عن سائر البدن. وقيل:
الخطاب للمنافقين والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ولا تتبعوا آثار تزيين الشيطان وتسويله بالإقامة على النفاق. وقيل: نزلت في مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه حين أرادوا أن يقيموا على بعض شرائع موسى كتعظيم السبت وقراءة التوراة واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأمروا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة لثبوت نسخها بالكلية، فإن التمسك بها بعد تبين نسخها من اتباع آثار الشيطان، وقيل: السلم الإسلام، والخطاب لأهل الكتاب، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالكتاب المتقدم كملوا طاعتكم بالإيمان بجميع أنبيائه وكتبه، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بالشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة {إنه لكم عدوّ مبين} عن أبي مسلم أن المبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره، ولا يخفى أنه أعرب عن عداوته لآدم ونسله.
وقيل: مبين من الإبانة القطع وذلك أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه. قوله: {فإن زللتم} المخاطبون هاهنا هم المخاطبون في قوله: {ادخلوا} فيجيء الخلاف هاهنا بحسب الخلاف هناك. والمعنى العام: فإن دحضت أقدامكم وانحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به {من بعد ما جاءتكم البينات} الدلائل العقلية والسمعية على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق {فاعلموا أن الله عزيز} غالب لا يعجزه الانتقام منكم وهذه نهاية في الوعيد كما لو قال الوالد لولده: إن عصيتني فأنت عارف بي وبشدّة سطوتي. كان أبلغ في الزجر من التصريح بضرب من ضروب العذاب. وكما أن قوله: {عزيز} يشتمل على الوعيد البليغ فقوله: {حكيم} يشتمل على الوعد الحسن. فإن اللائق بالحكمة تمييز المحسن من المسيء وأن لا يسّوي بينهما في الثواب والعقاب. روي أن قارئًا قرأ غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا. الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه يكون إغراء عليه. قوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} الآية معنى النظر هاهنا الانتظار. وأما إتيان الله فقد أجمع المفسرون على أنه سبحانه منزه عن المجيء والذهاب لأن هذا من شأن المحدثات والمركبات وأنه تعالى أزلي فرد في ذاته وصفاته فذكروا في الآية وجهين:
الأول: وهو مذهب السلف الصالح السكوت في مثل هذه الألفاظ عن التأويل وتفويضه إلى مراد الله تعالى كما يروى عن ابن عباس أنه قال: نزل القرآن على أربعة أوجه: وجه لا يعذر أحد بجهالته، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه، ووجه يعرف من قبل العربية فقط، ووجه لا يعلمه إلا الله.
الثاني: وهو قول جمهور المتكلمين: أنه لابد من التأويل على سبيل التفصيل. فقيل: جعل مجيء الآيات مجيئًا له تفخيمًا لها كما يقال جاء الملك إذا جاء جيش عظيم من جهته. وقيل: المراد إتيان أمره وبأسه فحذف المضاف بدليل قوله في موضع آخر {أو يأتي أمر ربك} [النحل: 33] {فجاءهم بأسنا} وأيضًا اللام في قوله: {وقضى الأمر} تدل على معهود سابق وما ذاك إلا الذي أضمرناه. لا يقال أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها معهود سابق وما ذاك إلا الذي أضمرناه. لا يقال أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها محال. وعند المعتزلة أصوات فتكون أعراضًا. فالإتيان عليها أيضًا محال لأنا نقول: الأمر قد يطلق على الفعل {وما أمر فرعون برشيد} [هود: 94] وحينئذ فالمراد ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المهيبة. وإن حملنا الأمر على ضد النهي فلا يبعد أن مناديًا ينادي يوم القيامة ألا إن الله يأمركم بكذا. ومعنى كونه في ظلل من الغمام أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في آن واحد، أو يكون المراد حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة، أو أنه تعالى يخلق نقوشًا منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها.
وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد، وتكون فائدة الظلل أنه تعالى جعلها أمارة لما يريد إنزاله بالقوم ليعلموا أن الأمر قد حضر. وقيل: المأتي به محذوف والمعنى إلا أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته الدالة عليه بقوله: {عزيز}. وفائدة الحذف كونه أبلغ في الوعيد لانقسام خواطرهم وذهاب فكرتهم في كل وجه. وقيل: إن في بمعنى الباء أي يأتيهم الله بظلل من الغمام، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة. وقيل: الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع كقوله تعالى: {والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] ولا قبض ولا طي ولا يمين وإنما الغرض تصوير عظمة شأنه. وقيل: بناء على أن الخطاب في ادخلوا وزللتم لليهود المراد أنهم لا يقبلون دين الحق إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، وذلك أن اليهود كانوا على اعتقاد التشبيه ويجوّزون المجيء والذهاب على الله تعالى ويقولون: إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام، فطلبوا مثل ذلك في زمن محمد صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا يكون الكلام حكاية عن معتقد اليهود ولا يبقى إشكال فإن الآية لا تدل إلا على أن قومًا ينتظرون إتيان الله وليس فيها دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أم مبطلون. والظلل جمع ظلة وهي ما أظلك والغمام لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعًا ومتراكمًا. فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة، كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة والعظم، فكل قطعة ظلة والجمع ظلل. والاستفهام هاهنا في معنى النفي أي ما ينتظرون إلا أن يأتيهم عذاب الله في ظلل من الغمام، وفيه تفظيع شأن العذاب وتهويله لأن الغمام مظنة الرحمة، وإذا نزل منه العذاب كان أشنع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر، فكيف إذا جاء الشر من حيث يتوقع الخير؟ أو نزول الغمام علامة لظهور الأهوال في القيامة قال: {يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلًا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يومًا على الكافرين عسيرًا} [الفرقان: 25، 26] واستعير لتتالي العذاب تتابع القطر وإتيان الملائكة ليقوموا بما أمروا به من تعذيب وتخريب ولا حاجة إلى التأويل لأن إتيانهم ممكن. {وقضي الأمر} فرغ من أمر إهلاكهم وتدميرهم أو عما كانوا يوعدون به، فلا تقال لهم عثرة ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة.
والتقدير: إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر، فوضع الماضي موضع المستقبل. إما للتنبيه في قرب العذاب أو الساعة كل ما هو آت قريب، وإما لأن إخبار الله تعالى كالواقع المقطوع به وقيل: الأمر المذكور هاهنا هو فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزله من الجنة والنار. وعن معاذ بن جبل وقضاء الأمر مصدر مرفوع عطفًا على لفظي الله والملائكة. {وإلى الله ترجع الأمور} وذلك أنه ملك في الدنيا عباده كثيرًا من أمور خلقه، أما إذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم بين العباد سواه وهذا كقولهم رجع أمرنا إلى الأمير إذا كان هو يختص بالنظر فيه. فعلى المكلف أن يدخل في السلم كما أمر ويحترز عن اتباع آثار الشيطان كما نهى. ثم إن الأمور ترجع إليه جل جلاله، وهو تعالى يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة. فهذا معنى القراءتين في {ترجع} وأيضًا قراءة ضم التاء وفتح الجيم على مذهب العرب في قولهم فلان معجب بنفسه ويقول الرجل لغيره: إلى أين ذهب بك؟ وإن لم يكن أحد يذهب به. أو المراد أن العباد يردّون أمورهم إلى خالقهم ويعترفون برجوعها إليه. أما المؤمنون فبالمقال، وأما الكافرون فبشهادة الحال {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدوّ والآصال} [الرعد: 15]. اهـ.